شمولية الحقيقة واحاطتها بالشريعة والطريقة ،للدكتور صلاح الدين خلوق

أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
صلاح الدين خلوق
مشرف عام
مشاركات: 52
اشترك في: الأحد 27 نوفمبر 2022

شمولية الحقيقة واحاطتها بالشريعة والطريقة ،للدكتور صلاح الدين خلوق

مشاركة بواسطة صلاح الدين خلوق »

شمولية الحقيقة واحاطتها بالشريعة والطريقة
بقلم: الدكتور صلاح الدين خلوق
الحقيقة عند اهل الله هي الكنز المستتر وراء الشريعة، و الشريعة هي الأحكام التي تجري على الجوارح، وقد أجمع الصوفية على ضرورة الالتزام بقواعد الشرع واحكام الدين، ولكنهم كانوا يفهمون الكنز المستتر وراء الاحكام الدينية، فلم يقفوا مع ظاهر الشرع في الفهم ، بل تجاوزوه الى لبه وكنهه وحقيقته ، ولم يفهموا من الشريعة احكامها فحسب ، بل تعلموا الدين وفقهوا اسراره الباطنة ، وهنا تكمن شمولية الحقيقة عندهم ، واحاطتها الكلية بالشريعة والطريقة .
وهنا نفهم لماذا شدد سادتنا الصوفية في الحيطة والتحذير، من خطورة تقديم الحقيقة على الشريعة، مع علمهم بان الحقيقة هي الأصل وهي المحيطة بالشريعة ، فجاء ذلك خوفا منهم على المريدين، من الوقوع في التراخي في القيام بواجبات الشرع واهماله، وتعظيم جناب الحقيقة وترك الاحكام الظاهرة ، فألحوا في المطالبة على القيام بظاهر الشرع، والالتزام بكل صغيرة و كبيرة فيه ، وجعلوا الشريعة ضمانا لدوام وكمال الحقيقة .
قال سيدي سهل بن عبد الله التستري : «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحًا.» ويقول أبو سعيد الخراز: «كل باطن يخالف ظاهرًا فهو باطل.» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارًّا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
ومما يدلُّ على أن الالتزام بأحكام الشريعة ، والاقتداء الدقيق بسنَّة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، هو تأكيدهم المستمر على ان الشريعة هي الأصل، وان الحقيقة بدون شريعة باطلة ، قال أبو القاسم القشيري في مطلَع رسالته القشيرية (التي ألَّفها حوالي سنة ٤٤٠ﻫ) منتقدا صوفية عصره، مطالبًا إياهم بالرجوع بالتصوف إلى اصوله التي هي الكتاب والسنة ، وذلك لما رأى منهم من التراخي في مسائل الشريعة ، يقول: «إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبقَ في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم ».
ان التصوف الحق، هو الذي تقوم فيه شمولية الحقيقة على تعظيم حُرمة الشريعة في القلب ، فكل حقيقة الا وهي صورة باطنة لظاهر الشرع، ولا يفهم هذا الا من جاهد نفسه، وعمل بالكتاب والسنة واقتدى بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، حينها تصبح شريعته حقيقة .
وهذا الامام الحجة الغزالي، الذي أتى بعد القُشيري بنحو نصف قرن، كانت كل كتبه توفيق بين الحقيقة والشريعة، وجعل الكتاب والسنة أساسا للتصوف، فمَزْج حقائق التصوف مزجًا تامًّا باحكام القرآن والحديث الشريف ، فكانت كل كتاباته في التصوف و الحقيقة لا تخلوا من الحديث المفصل عن احكام الشريعة، مظهرا على ان كل حقيقة الا ولها اصل في الشرع .
ان شمولية الحقيقة للشريعة ، واحاطتها بها ، لا ينبغي ان نفهمها من باب تجاوز الاحكام الشرعية ، بل من باب ترابطهما وتكاملهما فلا شريعة تخلو من حقيقة، ولاحقيقة بدون شريعة .

وفي هذا قال العارفون رضي الله عنهم : الشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق.
الشريعة أن تَعبده، والحقيقة أن تَشهده، الشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر.
فالشريعة تدعوك إلى القيام بالعبادات والاحكام ، والحقيقة تُشهدُك معاني هذه الاحكام ، واسرارها الباطنة التي تدلك على المعرفة بالله .
هذا معنًى من معاني الشريعة والحقيقة، وهكذا فهم الامر سادتنا الصوفية، واعتبر بعضُهم الشريعة منهجا من مناهج السلوك والتربية والترقية ، أو نوعًا من أدب النفس، يراعى فيه اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام في سنته الطاهرة ، فلم يَنظُروا إلى تعاليم الدين داخل حدود ضيقة كما وضعها بعض الفقهاء ، ولم يُقسِّموها إلى فروض وسنن، بل نظروا الى الشريعة بالإطلاق ، بل ضعوا أحيانا النوافل في مرتبة أعلى من الفرائض؛ لأنها الوسيلة التي تقربهم الى الحق عز وجل .
مصداقا للحديث القدسي : «و لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها … إلخ.» فأداء الفرائض طاعة، وأداء النوافل محبة، وأداء الفرائض يوصل إلى الجنة، وأداء النوافل يُوصِّل إلى رب الجنة.
ان النظر الى الحقيقة على انها شاملة للشريعة ومحيطة بها، يجعلك ترى السنن اعلى مرتبة من الفرائض، مع قيامك بالفرائض ، ويجعلك ترى النية أفضل من العمل؛ لأنها أساسه ومَبنى قوامه، وقيمة العمل ليسَت فيه من حيث ذاته، بل من حيث الباعث عليه والدافع إليه ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى.»
أي إنما قيمة الأعمال بحسب النية التي تَدفع إليها، «ولكل امرئٍ ما نوى» معناه لكل إنسان نصيبه من الجزاء على قدر نيته، شمولية الحقيقة للشريعة ، تجعلك تفضل التأمُّل وتجعله أصلا في تمام العبادة ، لانه مخ العبادة وروحها ، لان التامل هو الخشوع في كل حكم شرعي تعبدي ؛ فالتأمُّل عمل روحي بحت، والعبادة عمل بدني، والجمع بينهما يعطي الحياة لكل عبادة شرعية .
ان شمولية الحقيقة واحاطتها للشريعة ، تجعلك ترى الحكمة من وراء كل حكم شرعي، بل تجعلك ترى الحكمة من وراء الخلق الإلهي لهذا الكون البديع .
ان شمولية الحقيقة للشريعة واحاطتها ، تجعلك تحصَّل الفوائد الروحية من العبادة، وتقف على ما لهذه الفوائد من أثر في تطهير النفس، وتصفية القلب ، وتقريب العبد من الله، وإذا تمَّت تصفية القلب وحصل القرب من الله، تحقق العبد بمقام العبودية، وحصل على معرفة الله، والمعرفة بالله هي الغاية القُصوى ، والمقصد الأسمى من التشريع، بل هي الغاية من الخلق .
وكان احد العارفين بالله يقول : « من رأيته يدَّعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن علمٍ شرعي، فلا تقربَنَّه، ومن رأيته يدَّعي حالة باطنة لا يدلُّ عليها ويشهد لها حفظ ظاهر، فاتَّهِمْه في دينه».
هذه أمثلة نسوقها، للتدليل على أن السادة الصوفية لم يُفرِّطوا في ظاهر الشرع، على الرغم من وقوفهم على باطنه وحقيقته، وأنهم أنكروا كل الإنكار مقالة من قال: «إنهم داوَمُوا على الرياضة حتى رأوا أنفسهم قد تجوَهُروا، فقالوا: لا نُبالي الآن بما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم».


فاعتبروا أمثال هذه الاقوال شطحات لا يأخذ بها ، ولا يقتدى بقائلها، لانها تخالف اصل الأصول عندهم ، الا وهو تعظيم حرمة الشريعة في القلب .
ومن القصص التي لها مغزاها في إظاهر شمولية الحقيقة للشريعة والطريقة ، ما رُويَ من أن أحمد بن حنبل انه كان عند الشافعي يومًا، فمرَّ شيبان الراعي الصوفي، فقال أحمد: أريد يا أبا عبد الله أن أنبِّه هذا على نقصان علمِه ليَشتغِل بتحصيل بعض العلوم، فقال الشافعي: لا تفعل، فلم يَقتنِع وقال لشيبان: ما تقول فيمن نسيَ صلاةً من خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يَدري أي صلاة نسيَها، ما الواجب عليه يا شيبان؟ فقال شيبان: يا أحمد هذا قلب غفل عن ذكر الله تعالى، فالواجب أن يؤدَّب حتى لا يغفل عن مولاه، فغُشي على أحمد، فلما أفاق قال له الشافعي رحمه الله: ألم أقل لك لا تفعل .
لا شكَّ أن أحمد بن حنبل كان يُفكِّر في جوابٍ فقهي، يتصل بعدد الصلوات وأوقاتها، وفي مخرج فقهي أو حيلة فقهية تُخرج ذلك المصلِّي من ورطته، ولكن شيبان الصوفي لم يفكر في هذا كله وإنما فكر في أساس الصلاة وجوهرها وهو عدم الغفلة عن الله تعالى .
فالصوفية هم حماة الدين بمعناه الحقيقي، فنجدهم وضعوا حدودًا لأحكام الباطن ، واصولا لأعمال القلوب، و ذلك لأنهم اعتبروا الدين معاملة شخصية بين العبد وربه، وقاسوا طاعة العبد لا بمطابقة فعله للأحكام الظاهرة من الشرع فحسب، بل بمطابقته لروح الشرع وحقيقة هذه الاحكام، فالحقيقة حاضرة عند الصوفية ، وشاملة للشريعة شمول احاطة وسريان ، ومن هنا كان الفقيه الحقيقي في نظرهم، هو البصير بأمر الدين ، الفاهم لحقيقة الشرع ، لا العالم بظاهر أحكام ذلك الشرع فقط ، والمحجوب عن اسراره وحقيقته .
قيل للحسن البصري يومًا: فلانٌ فقيهٌ، فقال: «وهل رأيت فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه.» فالفقه الحقيقي في نظهم هو من له بصيرة نورانية يرى بها حقائق الدين ومقاصده الباطنة ، ويقف من خلالها على أسرار الأحكام.
ان شمولية الحقيقة واحاطتها بالشريعة والطريقة ، هي الجمع والتوفيق، بين العلم بأحكام الظاهر وأحكام الباطن جميعًا، وأن فقه أحكام الأحوال القلبية ، ومعاني المقامات الصوفية، ينبغي ان يكون بالتوازي عند الفقيه، مع العلم بأحكام الطهارة ، والقصاص ، والزكاة، وغيرها من أمور الفقه .
أضف رد جديد