الخطاب الصوفي في عصر العولمة والمعلوماتية
مرسل: الثلاثاء 27 ديسمبر 2022
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؛
بسم الله الرحمن الرحيم ؛
وصلى الله على سيدنا محمد الخاتم الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ؛
* ببركة وإذن مولانا الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري قدس الله سره الشريف ، سنتناول في هذه الورقة بإذن الله وبصِفةٍ مُجمَلة موضوعَ : الخطاب الصوفي في عصر العولمة والمعلوماتية :
1- في الفرق بين الخِطاب الفِقهي والخطاب الصُّوفي :
إذا كان الخطابُ الفقهي كما هو معلوم يهتمُّ بتبليغ علومِ العبادات و المعاملات و مقاصدِها والإجتهاد في تجديد فروعِها بناءً على قواعِد أصولِها بما تقتضيه تغيُّرات الزمان والمكان ، فإن الخطاب الصوفي يتوسّلُ هذا الخطابَ الفقهي واجتهاداتِه داخل مذهبه ( المالِكي عندنا ) على سُنّة الله ورسوله لبلوغ غايةٍ أسنى وأعلى وهي طهارةُ القلب وسلامتُه من الأفات والأمراض
( يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ )¹ ، وكذا تَحلّيه بمكارم الأخلاق ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقاً )² حتى يصيرَ مِرآةً قابلةً لانطباعِ العلوم والتجليات الإلهية النورانية شهوداً وعياناً ( واتقوا الله ويُعلّمُكم الله )³ ، لأن الصوفي اتخذَ أحكامَ الشريعة سفينةً موصِلَةً لهُ للحاكِم لا غايةً في حد ذاتِها ...
2 - في أن مقاصدَ الخطاب الصوفي التجديدي هي رسائل النور وليس رسائل الفقه وهذا يُشكِل على أغلبية الناس :
فإذا كان كُنهُ الخطاب الفقهي متاحاً ومعروفاً لدى العامة والخاصة لتعلُّقِه
بأحكام الشريعة كما جاءنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كُنهَ الخطاب الصوفي التحقيقي مجهولٌ حتى عند بعض أهل أدعياء العلم ... فكيف بالعامة من الناس ؟ وهذا راجعٌ إلى عدة أسباب تاريخية واجتماعية ليس الآن محلُّ بسطِها ، رغم أن فحوى هذا الخطاب الصوفي بكل بداهةٍ وبساطةٍ هو الدعوةُ إلى مقام الإحسان كما وردَ في الحديث الشريف : ( الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك )⁴ ، والرؤية نهجُها تشبيهٌ بنور كاف الإحسان : (كأنّك)
وغايتُها تنزيهٌ ( ليس كمِثلِه شئ)⁵ وعجزٌ ( العجز عن درك الإدراك إدراكٌ )⁶ ، بكُنهِ سيْرٍ عِلمِيٍّ ، لا عجزَ جهلٍ ... ووسيلتُها وواسطتُها وارثٌ محمّدي ، عالِمٌ ربّاني ( إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم ، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ )⁷ ؛ شيخٌ عارفٌ بالله مُجدِّد بأصول نورانيةٍ مَبنيّة على الكتاب العزيز والسُّنة النبوية المطهّرة ( إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها )⁸ ؛ متحققُ السّنَد عبرَ شجرةٍ نورانية زكيّة موصولةٍ بسيدنا المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
وهذا ما ٱتفق عليه أهلُ الله من أمّتنا الإسلامية عبر تاريخها المجيد .
فرسالة الخطاب الصوفي إذن هي رسالةُ نورٍ وليست فقهاً بالمعنى المُتَداوَل ، هي رسالة : ( بِسمِ اللَّه ِ الرَّحمنِ الرَّحيم اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )⁹
وهي أيضا رسالة : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)¹⁰ ، إلى غيرها من آيات النور الكثيرة الواردة في كتاب الله العزيز وسُنّة نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فبهذا المنطِق صارَ الخطاب الصوفي يسَعُ مالا يسعُه الخطابُ الفقهي خصوصاً في عصر العولمة ووسائلها المعلوماتية والتواصلية المتعددة لأنه يتوَسّلُه ويزيدُ عليه بثَمرة الذّكر المأذون والنور الذي هو بُراقٌ لطهارة القلب وتزكيتِه ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )¹¹ ، وسيرِه في مراتب معرفة الله على حسب ما قُسِّم له (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )¹² ؛ سُئِلَ أبن عباس رضي الله عنه ما معنى يعبدون قال : ليعرِفون .
3- الخطاب الصوفي في زمن العولمة وضعف التديّن :
أ- سِمات العولمة في عصرنا الحالي :
* تحوُّل العالَم إلى مجرد سوق
اقتصادي تتحكم فيه الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات ويهيمن فيه القوي على الضعيف ويطغى فيه نمط التنافس علي القِيَم الإستهلاكية المادية على حساب القيم الروحية والأخلاقية حتى أصبح معظم الخلق لا يحيون إلا لهدف هذا إلاستهلاك المشترَك بينهم وبين الحيوان ، وللأسف الشديد فقد اتّبَعَهم في هذا عددٌ لا يُستهانُ به من المسلمين لوهَنٕ وضُعفٍ في التدين مقتصرٍ على شعائرَ لا تُمَكّنُ من التزكية ، أو لإنبِهارهِم أوظنّهم أن هذا النمَط من العيش هو عينُ الحضارة والتقدم .
ويأتي دور الخطاب الصوفي في هذا الشّق من العولمة الإقتصادية متوجهاً :
أولاً : إلى أبنائه المسلمين للتمسك بهويتهم الروحية والأخلاقية ليتبيَّن لهم بنور هذه الهوية الخبيثَ من الطيّب في أوجه هذا النمط الإستهلاكي المفرِط ؛
ثانياً : إلى غير المسلمين من جميع الأجناس والشعوب لتقديم نموذجٍ لعلاج النفس و تزكيتِها لسد هذا الفراغ الروحي وتنوع الأمراض النفسية التي يعانون منها والتي أنشؤوا من أجلها عدة مجلّدات ومعاهد ومؤسسات للعلاج و للتنمية الشخصية الذاتية والتي تعتمد في مناهجها على عدة نظريات فلسفية غربية أو شرقية آسيوية لا تُحصَى كثرةً ولا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع .
من سماتِ هذه العولمة أيضاً : محاولة فرضِ وتأثيرِ خطابٍ و نموذجٍ واحد على باقي سلوكيات وقِيَم الدول والمجتمعات الأخرى وطمسِ خُصوصياتها و هُويّتها التاريخية ؛ أما الخطاب الصوفي فيتميّزُ بعرض قِيَم التسامح والتعارف بين المجتمعات على اختلاف ألوانها وألسِنتها دون عنفٍ مادي أو معنوي مصداقاً لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )¹³ .
4- الخطاب الصوفي والمعلوماتية :
ولِنَشرِ قِيَمها الإقتصادية والثقافية إلى كافة الشعوب والتأثير عليها ، تتوَسّل هذه العولمة أجهزةَ المعلوماتية الحديثة كالحواسيب والهواتف الذكية والتى صارت مُتاحةً وتُمَكّن من الوصولِ و النقل السريع للمعلومة عبر شبكة الأنترنيت العنكبوتية ؛ والخطابُ الصوفي من حقّه في قانون الحريات العامة أيضاً استعمال هذه التكنولوجيا المعلوماتية لتبليغ الرسالة النورانية الروحية و الأخلاقية عسى أن تستعيد الإنسانية وصلَها مع بارِئِها ...
وطريقتُنا الكركرية الشاذلية العلية تحت إشراف مولانا الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري قدّس الله سره الشريف نموذجٌ حيّ فريدٌ في عصرنا باستعمال الخطاب الصوفي وأصوله النورانية التجديدية من خلال هذه الشبكة وجميع مواقع التواصل الإجتماعي لتبليغ رسالة بسم الله الرحمن الرحيم ونور الله والمحبة إلى جميع الخلائق ، ونموذجٌ أيضاً في تنوّع ألوان مريديها و مريداتها وفُروعِها من جميع أقطار العالم متسامحين ، متعارفين ومتحابّين بنور الله مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)¹⁴ .
وصلّى اللهُ وسلّمَ وبارَك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمدُ لله ربّ العالمين .
* الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة :
1- سورة الشعراء ، الآية : 89/88 ؛
2- حديث صحيح رواه جابر بن عبدالله في صحيح الترمذي
الرقم : 2018 ؛
3- سورة البقرة ، الآية : 282 ؛
4- رواه عمر بن الخطاب وأخرجه مسلم في صحيحه رقم 8 ؛
5- سورة الشورى ، الآية : 11 ؛
6- رواه الزركشي في تشنيف المسامع عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛
7- رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم ؛
8- حديث صحيح رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داود ، رقم :4291 ؛
9- سورة النور ، الآية : 36 ؛
10- سورة البقرة ، الآية : 257 ؛
11- سورة الجمعة الآية : 3/2 ؛
12- سورة الذاريات ،الآية : 56 ؛
13- سورة الحجرات ، الآية : 13 ؛
14- حديث صحيح رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ،رقم : 1948 .
بسم الله الرحمن الرحيم ؛
وصلى الله على سيدنا محمد الخاتم الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ؛
* ببركة وإذن مولانا الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري قدس الله سره الشريف ، سنتناول في هذه الورقة بإذن الله وبصِفةٍ مُجمَلة موضوعَ : الخطاب الصوفي في عصر العولمة والمعلوماتية :
1- في الفرق بين الخِطاب الفِقهي والخطاب الصُّوفي :
إذا كان الخطابُ الفقهي كما هو معلوم يهتمُّ بتبليغ علومِ العبادات و المعاملات و مقاصدِها والإجتهاد في تجديد فروعِها بناءً على قواعِد أصولِها بما تقتضيه تغيُّرات الزمان والمكان ، فإن الخطاب الصوفي يتوسّلُ هذا الخطابَ الفقهي واجتهاداتِه داخل مذهبه ( المالِكي عندنا ) على سُنّة الله ورسوله لبلوغ غايةٍ أسنى وأعلى وهي طهارةُ القلب وسلامتُه من الأفات والأمراض
( يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ )¹ ، وكذا تَحلّيه بمكارم الأخلاق ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقاً )² حتى يصيرَ مِرآةً قابلةً لانطباعِ العلوم والتجليات الإلهية النورانية شهوداً وعياناً ( واتقوا الله ويُعلّمُكم الله )³ ، لأن الصوفي اتخذَ أحكامَ الشريعة سفينةً موصِلَةً لهُ للحاكِم لا غايةً في حد ذاتِها ...
2 - في أن مقاصدَ الخطاب الصوفي التجديدي هي رسائل النور وليس رسائل الفقه وهذا يُشكِل على أغلبية الناس :
فإذا كان كُنهُ الخطاب الفقهي متاحاً ومعروفاً لدى العامة والخاصة لتعلُّقِه
بأحكام الشريعة كما جاءنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كُنهَ الخطاب الصوفي التحقيقي مجهولٌ حتى عند بعض أهل أدعياء العلم ... فكيف بالعامة من الناس ؟ وهذا راجعٌ إلى عدة أسباب تاريخية واجتماعية ليس الآن محلُّ بسطِها ، رغم أن فحوى هذا الخطاب الصوفي بكل بداهةٍ وبساطةٍ هو الدعوةُ إلى مقام الإحسان كما وردَ في الحديث الشريف : ( الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك )⁴ ، والرؤية نهجُها تشبيهٌ بنور كاف الإحسان : (كأنّك)
وغايتُها تنزيهٌ ( ليس كمِثلِه شئ)⁵ وعجزٌ ( العجز عن درك الإدراك إدراكٌ )⁶ ، بكُنهِ سيْرٍ عِلمِيٍّ ، لا عجزَ جهلٍ ... ووسيلتُها وواسطتُها وارثٌ محمّدي ، عالِمٌ ربّاني ( إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم ، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ )⁷ ؛ شيخٌ عارفٌ بالله مُجدِّد بأصول نورانيةٍ مَبنيّة على الكتاب العزيز والسُّنة النبوية المطهّرة ( إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها )⁸ ؛ متحققُ السّنَد عبرَ شجرةٍ نورانية زكيّة موصولةٍ بسيدنا المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
وهذا ما ٱتفق عليه أهلُ الله من أمّتنا الإسلامية عبر تاريخها المجيد .
فرسالة الخطاب الصوفي إذن هي رسالةُ نورٍ وليست فقهاً بالمعنى المُتَداوَل ، هي رسالة : ( بِسمِ اللَّه ِ الرَّحمنِ الرَّحيم اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )⁹
وهي أيضا رسالة : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)¹⁰ ، إلى غيرها من آيات النور الكثيرة الواردة في كتاب الله العزيز وسُنّة نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فبهذا المنطِق صارَ الخطاب الصوفي يسَعُ مالا يسعُه الخطابُ الفقهي خصوصاً في عصر العولمة ووسائلها المعلوماتية والتواصلية المتعددة لأنه يتوَسّلُه ويزيدُ عليه بثَمرة الذّكر المأذون والنور الذي هو بُراقٌ لطهارة القلب وتزكيتِه ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )¹¹ ، وسيرِه في مراتب معرفة الله على حسب ما قُسِّم له (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )¹² ؛ سُئِلَ أبن عباس رضي الله عنه ما معنى يعبدون قال : ليعرِفون .
3- الخطاب الصوفي في زمن العولمة وضعف التديّن :
أ- سِمات العولمة في عصرنا الحالي :
* تحوُّل العالَم إلى مجرد سوق
اقتصادي تتحكم فيه الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات ويهيمن فيه القوي على الضعيف ويطغى فيه نمط التنافس علي القِيَم الإستهلاكية المادية على حساب القيم الروحية والأخلاقية حتى أصبح معظم الخلق لا يحيون إلا لهدف هذا إلاستهلاك المشترَك بينهم وبين الحيوان ، وللأسف الشديد فقد اتّبَعَهم في هذا عددٌ لا يُستهانُ به من المسلمين لوهَنٕ وضُعفٍ في التدين مقتصرٍ على شعائرَ لا تُمَكّنُ من التزكية ، أو لإنبِهارهِم أوظنّهم أن هذا النمَط من العيش هو عينُ الحضارة والتقدم .
ويأتي دور الخطاب الصوفي في هذا الشّق من العولمة الإقتصادية متوجهاً :
أولاً : إلى أبنائه المسلمين للتمسك بهويتهم الروحية والأخلاقية ليتبيَّن لهم بنور هذه الهوية الخبيثَ من الطيّب في أوجه هذا النمط الإستهلاكي المفرِط ؛
ثانياً : إلى غير المسلمين من جميع الأجناس والشعوب لتقديم نموذجٍ لعلاج النفس و تزكيتِها لسد هذا الفراغ الروحي وتنوع الأمراض النفسية التي يعانون منها والتي أنشؤوا من أجلها عدة مجلّدات ومعاهد ومؤسسات للعلاج و للتنمية الشخصية الذاتية والتي تعتمد في مناهجها على عدة نظريات فلسفية غربية أو شرقية آسيوية لا تُحصَى كثرةً ولا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع .
من سماتِ هذه العولمة أيضاً : محاولة فرضِ وتأثيرِ خطابٍ و نموذجٍ واحد على باقي سلوكيات وقِيَم الدول والمجتمعات الأخرى وطمسِ خُصوصياتها و هُويّتها التاريخية ؛ أما الخطاب الصوفي فيتميّزُ بعرض قِيَم التسامح والتعارف بين المجتمعات على اختلاف ألوانها وألسِنتها دون عنفٍ مادي أو معنوي مصداقاً لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )¹³ .
4- الخطاب الصوفي والمعلوماتية :
ولِنَشرِ قِيَمها الإقتصادية والثقافية إلى كافة الشعوب والتأثير عليها ، تتوَسّل هذه العولمة أجهزةَ المعلوماتية الحديثة كالحواسيب والهواتف الذكية والتى صارت مُتاحةً وتُمَكّن من الوصولِ و النقل السريع للمعلومة عبر شبكة الأنترنيت العنكبوتية ؛ والخطابُ الصوفي من حقّه في قانون الحريات العامة أيضاً استعمال هذه التكنولوجيا المعلوماتية لتبليغ الرسالة النورانية الروحية و الأخلاقية عسى أن تستعيد الإنسانية وصلَها مع بارِئِها ...
وطريقتُنا الكركرية الشاذلية العلية تحت إشراف مولانا الشيخ سيدي محمد فوزي الكركري قدّس الله سره الشريف نموذجٌ حيّ فريدٌ في عصرنا باستعمال الخطاب الصوفي وأصوله النورانية التجديدية من خلال هذه الشبكة وجميع مواقع التواصل الإجتماعي لتبليغ رسالة بسم الله الرحمن الرحيم ونور الله والمحبة إلى جميع الخلائق ، ونموذجٌ أيضاً في تنوّع ألوان مريديها و مريداتها وفُروعِها من جميع أقطار العالم متسامحين ، متعارفين ومتحابّين بنور الله مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)¹⁴ .
وصلّى اللهُ وسلّمَ وبارَك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمدُ لله ربّ العالمين .
* الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة :
1- سورة الشعراء ، الآية : 89/88 ؛
2- حديث صحيح رواه جابر بن عبدالله في صحيح الترمذي
الرقم : 2018 ؛
3- سورة البقرة ، الآية : 282 ؛
4- رواه عمر بن الخطاب وأخرجه مسلم في صحيحه رقم 8 ؛
5- سورة الشورى ، الآية : 11 ؛
6- رواه الزركشي في تشنيف المسامع عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛
7- رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم ؛
8- حديث صحيح رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داود ، رقم :4291 ؛
9- سورة النور ، الآية : 36 ؛
10- سورة البقرة ، الآية : 257 ؛
11- سورة الجمعة الآية : 3/2 ؛
12- سورة الذاريات ،الآية : 56 ؛
13- سورة الحجرات ، الآية : 13 ؛
14- حديث صحيح رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ،رقم : 1948 .